السودان الان السودان عاجل كتابات

“تمرد الخرطوم” وتوازنات القوى الجديدة ..السودان تشهد توتراً بين أطراف المعادلة الأمنية… وهؤلاء هم المستفيدون من إنهاء الفترة الانتقالية

مصدر الخبر / غرفة الاخبار

كشفت أحداث الخرطوم الأخيرة عن حجم المخاطر التي تواجهها الحكومة السودانية الانتقالية، وطبيعة توازنات القوى المتحركة نسبياً في هذه المرحلة، التي تحاول فيها أطراف الشراكة المدنية العسكرية في الخرطوم أن تسيطر فيها على السلطة بالسودان، بينما ساحات وميادين التمرّد ممكنة ضدها بطول البلاد وعرضها.

ربما يكون من المهم في هذه المساحة محاولة سبر غمار التمرد المسلح بالخرطوم، الذي قامت به هيئة العمليات المحلولة من جانب الحكومة الانتقالية قبل أشهر، واستلزم غلق المجال الجوي السوداني أمام حركة الطيران، لكن حسمته القوات المسلحة لصالحها في عدة ساعات، بينما حاول النابه محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع توظيفه لصالح دعم وزنه السياسي.

وأخيراً، كيف ينعكس النجاح الذي أحرزته القوات المسلحة السودانية والحكومة الانتقالية على موازين القوى في المشهد السياسي الراهن بين الأطراف السياسية؟

الأذرع الأمنية للبشير

أقدم الرئيس المخلوع عمر البشير على تكوين هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن والمخابرات السوداني عام 1997، وذلك في تكتيك لجأ البشير فيه إلى حماية نظام حكمه بعددٍ من الأجهزة الأمنية المتوازية، بما يخلق بينها تنافساً يدعم التوافق عليه، ولا يتيح الانقلاب ضده.

وفي هذا السياق كوّن البشير أيضاً قوات الدعم السريع المنبثقة من ميليشيات جنجاويد التي تنتمي إلى عرب السودان، وهي الميليشيا التي كانت مسؤولة عن مواجهة الحركات المسلحة في دارفور، التي كان يقودها قبل حميدتي الزعيم القبلي الدارفوري موسى هلال عم حميدتي، ويقبع حالياً بالسجون السودانية بعد أن أقدم الرجل على عقد نوع من التحالف مع رئيس تشاد عبر علاقة مصاهرة مع الرئيس إدريس ديبي الذي تزوّج ابنة هلال بما دعم وزن ونفوذ الأخير إلى الحد الذي لم يقبله البشير، فاستبدله بابن أخيه.

ويمكن القول، إن العام 2008 كان حاسماً في هندسة الأذرع المسلحة لنظام البشير، إذ إن دور القوات المسلحة السودانية كان ثانوياً في حماية البشير من محاولة انقلابية على نظام حكمه قامت بها حركة (العدل والمساواة)، ووصلت فيها إلى مشارف أم درمان في مايو (أيار) 2008، إذ حسمت هيئة العمليات في هذا التوقيت التابعة لجهاز الأمن الموقف لصالح نظام حكم البشير.

وترتب على هذا النجاح أن جرى دعم جهاز هيئة العمليات، وتضخمت قواتها لتصل إلى 14 ألف عنصر مسلحين تسليحاً حديثاً ومدربين تدريباً رفيعاً، وتبلورت المهام الأساسية لهيئة العمليات في مواجهة أي تمرّد ضد نظام حكم البشير مسلحاً كان أم سلمياً.

وبطبيعة الحال، تولَّت هيئة العمليات حماية نظام البشير من المعارضة السياسية التي تنامت في الخرطوم بعد العام 2015، مع إصرار الرجل على الاستمرار في الحكم، رغم الجهود الإقليمية برعاية دولية في تدبير خروج آمن له، بعد انسداد الأفق السياسي أمام نظام حكمه، ومواجهة تحرّكات شعبية متنامية ضده.

وفي هذا السياق تصاعد وزن هيئة العمليات في محاولة تطويق التحرّكات الشعبية المعارضة سياسة البشير في عدد من المحطات المتوالية، ربما أشهرها سبتمبر (أيلول) العام 2013، ويناير (كانون الثاني) 2018، وكانت الهيئة مسؤولة أيضاً عن ملاحقة وتعذيب كل معارضي البشير، وفي القلب منهم الحركات الاجتماعية الشبابية، وأعضاء تجمع المهنيين التنظيم النقابي الذي برز في 2016، وكان النواة الصلبة للثورة السودانية التي اندلعت في ديسمبر (كانون الأول) 2018.

وبطبيعة الحال، كانت هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن السوداني ضالعة في محاولة إخماد الثورة السودانية طوال الأشهر الأربعة الأولى من 2019، خصوصاً مع إعلان قائدها صلاح غوش أن أي نجاح للثورة معناه إنهاء حكم الحركة القومية الإسلامية السودانية التي قضى معظم عمره لحماية نظام حكمها.

وقد تمركزت هيئة العمليات في مدينة البشير الطبية المواجهة للقيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم التي كانت تعلو ساحة الاعتصام، إذ مارست قمعاً لشباب المتظاهرين وصل إلى حد الاغتيال الممنهج في ساحة الاعتصام وغيرها من المواقع طبقاً لشهادات المتظاهرين.

وبطبيعة الحال، كان المطلب السياسي الأول لقوى تحالف الحرية والتغيير بعد نجاح الثورة في خلع البشير ومحاكمته، وأيضاً تكوين الحكومة الانتقالية السودانية في مطلع سبتمبر (أيلول) 2019، هو أن تُحلّ هيئة العمليات المسؤولة تاريخياً عن حماية نظام البشير، وملاحقة معارضيه.

وبالفعل، أقدمت الحكومة على اتخاذ القرار كأول قرار لها في محاولة تفكيك نظام حكم البشير، إذ حوّلت جهاز الأمن إلى جهاز لجمع المعلومات فقط، وحرمته من الفاعلية المسلحة لهيئة العمليات التابعة إليه، وسمَّته جهاز المخابرات العامة، وبدأت في تسريح عدد من ضباط جهاز الأمن، كانت آخر دفعة منهم في منتصف ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

ومع التفكيك المدروس اضطرت الحكومة إلى تقديم عروض لهذه الهيئة لها طابع الاحتواء لا المواجهة، خصوصاً مع طبيعة التسلّح الرفيع لهذه القوات، إذ عرضت الحكومة على عناصر هيئة العمليات إمَّا الانضمام إلى القوات المسلحة أو قوات الدعم السريع، وإمَّا التسريح مع التعويض.

لكن، جميع هذه العروض لم تلقَ قبولاً من هيئة العمليات، وتمترست في مواقعها، كما رفضت تسليم مقراتها الأربعة الواقعة على زوايا العاصمة السودانية، واحتفظت بتسليحها.

في المقابل، لم تُقدم الأذرع الأمنية للحكومة السودانية الانتقالية من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع على التصعيد مع هيئة العمليات المحلولة، تحسباً لطبيعة تسليحها، وجاهزية عناصرها المنتمين إلى الحركة القومية الإسلامية، وأيضاً وجود مواقعها في قلب العاصمة السودانية، فمركزها الرئيس مثلاً يقع على بعد أمتار من مطار الخرطوم الدولي .

توازنات المشهد السياسي

وفي تقديرنا، أسهمت تطورات المشهد السياسي السوداني في تصاعد التوتر بين أطراف المعادلة الأمنية في السودان، إذ قابلت هيئة العمليات المحلولة صدور حكم قضائي بإعدام 27 عنصراً من عناصرها لتورطهم في قتل أحمد خير بإصدار بيان تؤكد فيه عدم قبولها الحكم القضائي (أول درجة)، وعزمها على حماية عناصرها وطرح أفكار بشأن تقديم ديات مقابل دم الشهيد.

وهو أمرٌ لا يقبله النشطاء من الثوار الذين يملكون وجوداً مؤثراً على الأرض فيما يسمى (لجان المقاومة) في الأحياء، وهو ما يمثل بدوره آلية ضغط على الحكومة السودانية.

ولم يسجّل المشهد السوداني هدوءاً بعد هذا الحكم، إذ اندلعت في مدينة الجنينة أقصى غرب السودان أحداث في معسكر كريندق للنازحين أسفرت عن وقوع 20 قتيلاً وعدد من المصابين في وقائع تبدو لنا مصنوعة أكثر منها تلقائية، ولم يصدر عن الحكومة التي انتقلت إلى الجنينة على الفور أي تفسيرات عن الوقائع، وقالت إنها “قيد تحقيق”، بينما انفجرت طائرة هليكوبتر كان من المُنتظر أن تقل وزير العدل السوداني، لكنه غادرها قبل الإقلاع مباشرة، في مشهد يبدو غامضاً.

وأسهمت هذه التطورات في تصاعد نغمة ضعف الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، وعدم قدرتها على تسيير دولاب الدولة وضرورة إنهاء الفترة الانتقالية وإجراء انتخابات لتجيء بحكومة جديدة، إذ انتشرت فيديوهات تحريضية ضد الحكومة، على وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرة إلى عجز الحكومة وضعف حمدوك المطلوب إطاحته.

وتبدو الأطراف المستفيدة من إنهاء الفترة الانتقالية متعددة، منها الحكم البائد الذي ما زال مسيطراً على مقاليد الآليات الاقتصادية المؤثرة بطبيعة الحال على أي ترتيبات انتخابية، وربما تضمن عودة ولو محدودة للإسلاميين في المشهد السياسي، خصوصاً بعد إعلانهم الوجود السياسي عبر تنظيمين، أعلن عن تكوينهما في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، منها التنظيم الأم للإسلام السياسي في السودان أي الحركة القومية الإسلامية، وهو حزب (الإصلاح والتنمية) بقيادة والي دارفور الأسبق الذي سعى إلى دعم قطري، لكنه فشل في ذلك فيما توصلنا إليه من معلومات، كما أعلن عن التنظيم المعبر عن المنشقين عن الحركة الإسلامية باسم حزب (بناة المستقبل)، بدعم ومباركة غازي صلاح الدين رئيس حركة الإصلاح الآن، والمنشق عن البشير منذ عام 2013 على خلفية قتل 200 متظاهر في احتجاجات 2013.

أمَّا الطرف السياسي الآخر المتعجل الوصول إلى السلطة، فهو حزب الأمة الذي يسعي بدأب لأن يكون جزءاً مؤثراً من معادلة السلطة بالسودان، فهو لا يقبل حالة الإقصاء للأحزاب السياسية في تكوين الحكومة الانتقالية، ويخشى من أن استمرارها قد يسفر عن اختلال موازين القوى على الأرض، بحيث تؤثر في قواعده الاجتماعية، وهيئته الناخبة المكوّنة أساساً من طائفة الأنصار ذات الوزن في بعض الأقاليم السودانية، خصوصاً إذا أقدم تحالف الحرية والتغيير على إعادة هندسة الدوائر الانتخابية .

في هذا السياق ينتظم الصادق المهدي زعيم حزب الأمة في مغازلة القوى الصلبة في الدولة السودانية، خصوصاً حميدتي قائد قوات الدعم السريع، وهو الرجل الذي تحت إمرته ما يزيد على 50 ألف عنصر مسلحين تسليحاً حديثاً، ويملك معدات عسكرية ما دون جوية، وكذلك يتمتع حميدتي بعلاقات خليجية مميزة على خلفية دعمه قوات التحالف العربي في اليمن بقوات مقاتلة.

وهو ما يرفع أسهم الرجل بطبيعة الحال في أمرين، الأول جذب الاستثمارات الخليجية إلى السودان، خصوصاً في مجال الموانئ الذي تهتم به شركة موانئ دبي، إذ تسعى إلى وجود مكثف على مجمل موانئ البحر الأحمر وبحر العرب.

وفي سياقٍ موازٍ يجوب الصادق المهدي أيضاً أنحاء السودان في ليالٍ سياسية يعيد فيها لحمة طائفة الأنصار، التي تعرَّضت إلى ترهلات وانشقاقات تحت مظلة الحكم القمعي للبشير.

على أن مشهد الإعلان عن دحر تمرد هيئة العمليات والاستيلاء على مقراتها في الخرطوم فجر 15 يناير (كانون الثاني) يشير بشكل واضح إلى تغيير في موازين القوى، فقد غاب عن المشهد حميدتي، وبرز فيه عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي وممثل القوات المسلحة السودانية، وكذلك رئيس الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك الذي ألمح بذكاء إلى الشراكة المدنية العسكرية وضروراتها العملية، بينما سعى حميدتي إلى الوجود في المشهد بمؤتمر صحافي عُقِد في جوبا، لكنه اهتمّ فيه بتصفية الحسابات مع غريمه التاريخي غوش قائد جهاز الأمن السابق محملاً مسؤولية التمرد له، متناسياً أن تقاليد القاهرة تاريخياً، إن صحت معلومات إقامته بها، لا تسمح للخارجين من أي نظام سياسي في الخرطوم بممارسة أي دور ضدها .

أماني الطويل كاتبة وباحثة مديرة البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ورئيسة تحرير سلسلة أفريقيات


جريدة اندبندنت البريطانية

عن مصدر الخبر

غرفة الاخبار